العنف كظاهرة سوسيولوجية
العنف والعنف الرمزي
إن إعادة التفكير في ظاهرة العنف اليوم ليس من باب الترف الفكري أو ضربا من ضروب البلاغة، بل العودة العنيفة للعنف في المجتمعات لأنها لازالت تؤمن بقدوم ذلك الشخص البطل و الكاريزمي، أو تمني النفس بانبلاج المهدي المنتظر ليخلصها مما هي فيه من ضيق و أزمات، فضلا عن ذلك فإن كل تفكير في ظاهرة العنف هو تفكير في صميم و عمق الحياة الإنسانية أو بالأحرى في تجل من تجليات السلوك الإنساني، فالمطلوب هو اعتبار العنف ظاهرة إنسانية بامتياز ، إن لم نقل ظاهرة ثقافية .
في المقابل، لابد من القطع مع التمثل السائد بكون العنف غريبا عن الإنسان و دخيلا عليه، و الحال أن العنف جزء لا يتجزأ عن الإنسان، لكن يبدو أنه تم نسيان هذه الحقيقة و تعويضها بقيم التسامح و الخير...التي اكتسبت صفة المرغوبية بفرط السعي إليها أي أن الإنسان نسي ما هو عليه و عوضه بما يريد ان يكون عليه. و لعل حضور القوانين و النواميس ليس إلا تأكيدا لوعي واع أو لاواع بكون العنف ميزة تنضاف إلى الإنسان فإذا كان هذا الكائن يستعصى على كل تحديد يروم الإمساك بماهيته فيعرف أنه الكائن المدني أو الاجتماعي إذ يميل إلى الإجتماع بطبعه كما يوصف بالكائن السياسي أي الذي ينزع إلى تسييس وجوده و ينعته الخطاب الديني بالكائن العابد أو المتدين بمعنى الكائن الذي يحذوه نزوع نحو المقدس فيمكن وسمه أيضا بالكائن العنيف الذي يتأصل فيه العنف و يعتبر إمكانا من بين إمكانياته الممكنة.صحيح أن العنف هو انكشاف للجانب الغاضب و المكبوت في الإنسان، غير أن الإنسان حين يلجأ إلى العنف فبغية إبراز وجوده و الارتقاء بكينونته أي يستعمل العنف ليتخذ مسافة ممكنة عن العنف لهذا نقترح تسمية عنف الإنسان بالعنف المتعالي عن العنف.و ما يجعلنا نطمئن لهذا التحديد و لو مؤقتا أي كون الإنسان كائنا يتجذر فيه العنف هو أن الممارسة السياسية في عمقها ما هي إلا صراع مع الجانب العنيف في الإنسان ليس لاحتوائه و إنما لاستئصاله و اجتثاثه من جذوره رغم أنه تم الاقتناع أخيرا أن هذا المسعى يبدو مستحيلا و لقد كان لهذه الحقيقة التي مفادها،أنه يمكن تأجيل العنف و ليس القضاء عليه، أثر كبير في صياغة الإشكال من جديد و الذي أصبح على الشكل التالي : كيف سيتم تصريف و إعلاء عنف الشعوب بشكل لا يستفز الشعب و لا يمس مصالح المستفيدين ، من الامتيازات التي يمنحها المجال السياسي لهم على حساب عموم أفراد الشعب؟ صحيح أنه لا يوجد مجال سياسي يمكنه إشباع جميع رغبات أفراد الشعب لكن يبدو أن الديمقراطية كشعار تتبجح الدولة- باعتبارها مجموعة من الأجهزة و المؤسسات التي تمارس السلطة في بلد ما- بكونها تؤسس لها يقتضي منها و من الممارسة السياسية مراعاة عموم أفراد الشعب بتوعيتهم و تأهيلهم للمشاركة اليقظة في تدبير الشأن العام فحين نطالب بالمساواة مثلا فمعناه أن تكون لأفراد الشعب القدرة على التفكير و المساءلة الأصيلة للسياسي و السياسة، إن المحرار الذي يقاس به رقي أي شعب من الشعوب هو ما يملكه أفراده من وعي و نضج فكري و الحال أن نمو الوعي لدى أفراد المجتمع يحتاج إلى وقت طويل جدا لكي يكتمل أو يقترب من الإكتمال خاصة في مجتمعات لا يمكن نعتها إلا بمجتمعات تعيش على درجة الصفر على مستوى الوعي، مجتمعات يغلب على تفكيرها طابع الجاهز والإندفاع و التطرف و الدوغمائية و ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. إجمالا خطاب المجتمع اليوم هو خطاب مليئ بالعواطف و ذو شحنات سيكولوجية. هكذا إذا فإن التفكير في ظاهرة العنف اليوم يستوجب اعتبارها ظاهرة اجتماعية تقتضي تحليلها في عمقها و ليس التعامل معها كسلوك سيكولوجي شاذ ينم عن حياة وضعتنا في محل لا محل له من...؟بعد هذا التشخيص المقتضب لإشكالية العنف في مجتمعات كمجتمعنا الذي يحتاج إلى تغييرات راديكالية في بنية تفكير أفراده، سننتقل للوقوف عند مفهوم العنف الرمزي الذي يستعمل عادة كمقابل للعنف الجسدي، فإذا كان العنف الجسدي او المادي أو البوليسي..,، والذي بتعدد تسمياته يتوحد كممارس للقمع و الردع و الزجر المباشرو غير المباشر، المحسوس و غير المحسوس (كالقمع الإداري مثلا)، فإن تطور الحياة فرض على ما يبدو على الدولة تطوير آليات ممارسة العنف. ولعل العنف الرمزي هو أرقى نموذج تلجأ إليه الدولة للإطمئنان على السبات العميق لدى أفراد الشعب. لكن ما هو العنف الرمزي؟ يعرف السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو العنف الرمزي في كتابه "الهيمنة الذكورية" بالقول:"العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف و عذب و غير محسوس و غير مرئي لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرق و الوسائل الرمزية الخالصة أي عبر عملية التعرف و الاعتراف أو على الحدود القصوى للمشاعر و الحميميات" يبدو إذا أن صفة الاختفاء و التواري تسم هذا العنف إذ يحضر على هيئات تجعله مرغوبا فيه من قبل ضحاياه أنفسهم .يمكن القول إن العنف الرمزي هو مختلف أشكال الإكراه المباشر أو غير المباشر التي يفرضها فرد على آخر او جماعة على أخرى مثل طريقة الكلام و الجلوس و الأكل و اللباس و هو موجود لا بين الأغنياء و الفقراء كما يذهب إلى ذلك كارل ماركس( البورجوازية و البروليتاريا ) بل نجده بين الأغنياء فيما بينهم و الفقراء فيما بينهم و لمزيد من التوضيح سنأخذ بعض أجهزة الدولة التي تمارس من خلالها العنف الرمزي بتوظيفها لغرض الهيمنة و فرض منظومة معينة من القيم و الدلالات على أفراد الشعب على أنها النموذج الأرقى و الأسمى، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الخطاب السائد في المدرسة يذهب إلى تهميش المهمشين و ذلك بتكريس التفاوتات المعرفية ثم الاقتصادية طبعا ، إذ نسجل على هذا الخطاب كونه يشكل امتدادا للثقافة السائدة في الأوساط الغنية التي باتت تصنع النموذج و البراديغم و ذلك بفرض ثقافتتها واعتبارها تتويجا لمسار تاريخي اكتمل و انتهى لديها.فمثلا فكيف نطلب من التلاميذ كتابة إنشاء يصفون فيه رحلة قاموا بها إلى البحر في العطلة الصيفية و أغلبهم لم يبارح قريته العجيبة؟أومثلا كيف يدرس التلاميذ مادة المعلوميات في غياب تام للحواسيب أو قاعة متعددة الوسائط؟ أو كيف ينجزون تجربة في مادة العلوم الفيزيائية في غياب تام للمختبر؟ و في أحسن الحالات فإنهم يحاولون التأكد من كون امتزاج هذا المحلول و ذاك يؤدي إلى نتيجة معينة، لكن التجربة لا تنجح و لن تنجح، لأنها ببساطة محاليل انتهت مدة صلاحيتها، أو أو، هذه الوضعيات نادرا ما نجدها في الدارالبيضاء أو في الرباط أو في فاس... لأن في هذه المدن يوجد أبناء المسؤولين. الأمر نفسه نسجله في الإعلام الرسمي على وجه الخصوص و الذي يستبلد المتلقي و يمارس عليه عنفا رمزيا خطيرا و ذلك لأنه يخاطب في المشاهد إما بطنه أو عواطفه. و للأسف فإننا كمشاهدين لا نستطيع مسايرة أكلات شميشة الشهية على ما أظن، لأننا كطبقة فقيرة لا نملك مطبخها أو فرنها بل حتى سكاكينها الحادة جدا هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا نعيش لا حب الأتراك و لا الهنود...ولعل ضحك السيدة وزيرة الصحة ياسمينة بادو عن سؤال كان يهم منطقة الرشيدية يدل على أنها تتمثل سكان المنطقة و كأنهم حيوانات أو ما شابه لكنه شعور متبادل. صحيح أننا نسجل إقبالا على هذا الإعلام الهرم،غير أن هذا المعطى لا يعني شيئا لأن النوعية التي تقبل عليه هم ممن لا يدرون و لا يدرون أنهم لا يدرون.
0 التعليقات :
إرسال تعليق