الجمعة، 14 أكتوبر 2016

هكذا تحاور بورديو…

هكذا تحاور بورديو…

 

إن السوسيولوجيا تتأسس علميا و موضوعيا على ” الإجتماعي” . هذا الأساس الذي ترتكز عليه في حركة ذهاب و إياب بين العدة النظرية و المعطيات الميدانية , حيث أنها لا تفصل بينهما فكلاهما يكمل الآخر.

و الحال أن العدة النظرية بدون ميدان – تعتمل فيه الوقائع و الظواهر الإجتماعية- عمياء, و الواقع بدون عدة نظرية أجوف.
لذلك فالسوسيولوجيا ممارسة ميدانية بامتياز, تقتضي عملية الهدم و البناء مع المحافظة على الصرامة و الدقة العلميتين و خصوصية الواقع.
غير أن السوسيولوجيا لا تدعي لنفسها الفهم الدوغمائي و النهائي للتجربة الحقلية , و بالتالي فهي قادرة على طرح بديل للهشاشة و الأعطاب المجتمعية . بقدر ما تضع نفسها على عتبة الفهم , فهي مجرد خطوة أولى على طريق الفهم و التفسير.
تحاول مقاربة الفعل الإجتماعي و اكتشاف الثابث و المتحول داخل المجتمع عبر استدماج و استلهام فهم خاص للممارسة السوسيولوجية.
إلا أن بلوغ هذا المرمى يقتضي خارطة طريق يتتبعها عالم الإجتماع حتى يتمكن من ملامسة المعنى و استقرائه دون السقوط في الذاتية و الرضوخ للإجابات الجاهزة , فمهمة عالم الإجتماع – على حد قول بورديو- هي تفجير السؤال النقدي عبر التمكن من منطق العلاقات و الأدوار و المؤسسات المجتمعية و إضفاء معنى منطقي على تحولاتها و ثباثها .
و لعل أسلوب الحوار يظل أحد المقاربات المشترطة في عالم الإجتماع حتى يستطيع فهم الجماعات الإنسانية في صيغ انوجادها و تشكلاتها و صيغ ارتباط الفرد بها . يشير إميل دوركهايم في كتابه ” قواعد المنهج الإجتماعي” على أن الإجتماعي لا يمكن تفسيره إلا بالإجتماعي . فالحوار و المساءلة يظلان المورد الأساس الذي يعطي للسوسيولوجيا المعنى و المبنى المعرفي .
فهل باستطاعة عالم الإجتماع إصاخة السمع و التقاط تفاصيل التفاصيل عبر أسلوب الحوار؟ بل ما هي شروط الحوار و أدواته أولا؟ و كيف يرى العلاقة بينه و بين المستجوب؟ و هل باستطاعته القطع مع الحس المشترك و مع الخيميائي الذي يسكنه؟ و ما المعايير و المبادئ التي يستند عليها التحقيق و الحوار السوسيولوجيين؟ ألا يحمل الحوار في حد ذاته عنفا رمزيا اتجاه المستجوب خصوصا و أن كل سؤال ينبش في ذاكرة المستجوب الخاصة؟
أسلوب في الحوار
في كتابه ” بؤس العالم” la misère du monde عن منشورات ” لوسوي ” le Seuil بباريس و هو كتاب ضخم و مرجع سوسيولوجي أثير لا غنى عنه في قارة السوسيولوجيا عمد بيير بورديو و آخرون – ما ينيف على عشرين باحثا اجتماعيا- في أحد أهم فصول الكتاب إلى اعتماد أسلوب الحوار و التحقيق مع مختلف الشرائح الإجتماعية الفرنسية حتى يتمكن من تحديد مظاهر العسر التي يعاني منها المجتمع في فرنسا بمختلف مكوناته البشرية -حتى المهاجرين منهم و الأجانب- .
قضى بيير بورديو عقودا عديدة في إجراء حوارات و تحقيقات سوسيولوجية , منهجسا بمعرفة تفجير السؤال النقدي لفهم و تعرية الظاهرة الإجتماعية , يشرح و يفكك النسق العام بعيدا عن الوصفات الجاهزة و الركون إلى المقاربات الكسولة . فولدت لديه هذه العقود خلاصة مفادها أن الممارسة السوسيولوجية يجب أن تكون على أعلى مستوى من الحذر و الإحتياط من مغبة الوقوع في المعرفة المعدة و المطبوخة سلفا أو الإنصهار العاطفي و الشعوري بين مجري الحوار و المجرى معه الحوار خصوصا و أن الباحث يثقل كاهله العبء الرمزي الذي يمارسه عليه التاريخ , فهو ينتج تاريخه ببحثه المضني عن الهوية و الإنتماء , و هو بذلك لا محالة ساقط في لعبة التاريخ و التأريخ .
و الجدير بالذكر أن ثمة علاقة تقوم أثناء الإستجواب بين المستجوب و المستجوب . هذه العلاقة التي لا يمكن توقع مجراها و لا نتائجها , فهي تمثل حقل تأثير و تأثر بين سوسيولوجي ليس بالضرورة مصلحا اجتماعيا و لا ينفعل وجدانيا مع ظاهرة العسر و العطب الإجتماعي , يدرس الحقل بحذر إبستمولوجي كبير و بحياد و برود كبيرين , و بين مستجوب يعيش الأزمة تتعالى زفراته و سخطه . أتراه قادرا على التعبير عما يعتمل داخله ؟ وهل بمقدوره الكشف عن ذلك و التعبير عنه بشكل يمكن المحقق من فهم وتحليل الظاهرة ؟
أم سيفضل الصمت لأن هناك أسبابا خفية قد تمنعه من قبل الخصوصية أو الخوف من الآخر أو فوبيا تعرية الذات إلى غير تلك من الأسباب المعقدة و المتعددة بتعدد المستجوبين ؟
كل هذه الإلتواءات و المطبات الفكرية و الميدانية المعقدة دفعت ببورديو إلى إقامة مقاربة معرفية علمية لا علموية مادتها احتياطات منهجية و علمية و عدتها البراديغم السوسيولوجي الصارم .
هذا الأخير الذي يعبد الطريق الملكي نحو الفهم , فمهمة المحاور- الباحث السوسيولوجي- مهمة نضالية لا تقتنع بالحوارات الكسولة و المطمئنة و لا تقف عند حدود الجاهز و اليقيني .
و تجدر الإشارة إلى أن أول قاعدة اشترط بيير يورديو أن تتوفر لدى الباحث السوسيولوجي القائم بالمحاورة أو التحقيق تتمثل فيما أسماه بالإنعكاسية Réflexivité , و التي تقضي بأن يمارس قواعد حرفته و مبادئها القيمية على عمله نفسه . وشدد على ضرورة تحليله لعمله و خطابه و نشاطه تحليلا انعكاسيا ) ذاتيا (. و بعبارة أخرى عليه أن يستعمل حواراته و تحقيقاته و ما توصل إليه ليغربل دوره و ليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي و تطبعه و التي قد تؤثر على ممارسته العلمية و تشوش رؤيته للمجتمع . ولذلك أصبح مفهوم الإنعكاسية في نظر بورديو شرطا أساسيا لكل عمل نزيه و موضوعي في مجال العلوم الإجتماعية . و الحال أن هذا الشرط من شأنه ان يخلق لدى الباحث السوسيولوجي نوعا من ردة الفعل الدائمة و الحاضرة المؤسسة على تمرس مهني و على عين سوسيوبوجية ثالثة تكشف ما هو مخفي و ليس ما هو ماثل أمامه , تتيح له إمكانية السيطرة على مجريات الحوار و على البنية الإجتماعية التي ينشدها الباحث و يتحقق في حقلها الحوار المرغوب المفضي إلى تحليل اجتماعي عميق لدلالات الاجابات .
فكيف باستطاعة الباحث السوسيولوجي إذن تطبيق باراديغمه الصارم على عمله نفسه؟ و ما السبيل إلى بناء حوار بعيد عن كل المؤثرات التي تحول دون الفهم الكامل للعطب و مظاهر العسر؟
كما أسلفنا الذكر تنشأ ثمة علاقة بين المستجوب و المستجوب , هذه الأخيرة التي تطرح أكثر من علامة استفهام , إذ تترك لا محالة آثارا على المستجوب و على رؤيته الشخصية للحوار في عموميته , جدواه و ضرورته . خصوصا و أن الحوار أو التحقيق المراد إنجازه لكشف مكامن العطب و العسر اللذين يعاني منهما غالبا ما يعتبره تسللا إلى عالمه الشخصي.
و الحال أن الباحث هو الذي يعمل على مد جسر التحقيق و الحوار متخذا في ذلك البناء قواعده الخاصة و كيفيات حواره بشكل أحادي دون تفاوض مسبق و معلن بين الطرفين , مما يشكل تجاوزا أو عنفا رمزيا قد يمارس على المستجوب .
و لعل اختلاف المستوى الثقافي و اللغوي – الرساميل الرمزية- و المكانة الإجتماعية أو المهنية المتميزة التي قد يشغلها المحاور تزيد من صعوبة عمله كباحث سوسيولوجي .
لذلك صار لزاما عليه إصاخة السمع الممنهج و الفعال و الإنصات لدقائق الأمور لفهم منطقها الداخلي و لإعطائها المعنى المفترض بعيدا عن عفوية الحوار غير الموجه و عن التسلط و الإعداد المسبق للأجوبة و التي غالبا ما يحيل المحاور المحاور عليها بشكل من الأشكال و كأنه بذلك يضعها له في فمه عبر أسئلة موجهة و مقدمة سلفا تحمل في ثناياها الجواب ذاته.
ووعيا من الباحث السوسيولوجي بأهمية الحوار و دوره في الكشف عن المخفي المجسد للعطب الإجتماعي , يرى بورديو أن المحاور عليه أن يلم بالوضع الكلي للتحقيق و المحاورة عبر محاولة الدخول إلى عالم المستجوب بتبني لغته و خطابه و تاريخه الخاص إن أمكن , مما يمكن من إحداث نوع من التكيف Adaptation يقحم المحاور في وجهات نظر و مشاعر و أفكار المحاور.
إن الباحث السوسيولوجي مدعو الآن إلى تعديل ممتلكاته اللغوية و الرمزية بشكل يمتزج و ممتلكات المستجوب . و من هنا يطرح بورديو سؤالا و مهما و أساسيا , من يحاور من؟
و للإجابة على هذا السؤال طلب بورديو من العاملين إجراء الحوارأو التحقيق مع أناس يعرفونهم هم أنفسهم من قبل . فلنعكس الصورة لنتلمس الحقيقة . فلنتصور جدلا أن باحثا سوسيولوجيا فرنسيا قام بهذا التحقيق مع مستجوب من المهاجرين العرب مثلا , و أن هذا الأخير تختلف ممتلكاته اللغوية و الرمزية كليا أو جزئيا عن ممتلكات المستجوب -علما أن كل الباحثين أجمعوا على أن حصر انتباه المحاور باستمرار و جرد المعلومات و الأجوبة التي قد تكون متسرعة, مزيفة, غامضة… من الصعوبة بما كان- ترى هل ثمة فرصة كاملة وسانحة لإجراء الحوار عبر قناة غير مشفرة , بمعنى أن الباحث سوف لن يجد أدنى صعوبة في استصغاء زفرات وآهات و تعابير و لغة المحاور على اختلاف الممتلكات ؟ يبدو أن المهمة هنا تبدو صعبة.
من هنا تطفو عبقرية بورديو على سطح الممارسة السوسيولوجية حيث أوكل محاورة العمال العرب و أبناءهم مثلا لباحثين اجتماعيين مغاربيين يعيشون في الحي نفسه , و تربطهم علاقات جوار أو صداقة تمتد لسنوات . هذا التقارب يجعل المحاور يتكلم بأريحية و بدقة لأن المستجوب منحه قبلا و بعدا تلك الضمانة على عدم تعرية البواعث الذاتية و الشخصية للمحاور. مما يجعل الطرفان على وفاق و تلاؤم يعطي لكل جزئيات الحوار أهمية بالغة من قبيل العلامات اللفظية , الإشارات , الأخطاء اللغوية , تعابير الوجه… وهذا كله يساعد إلى درجة كبيرة في دراسة الأجوبة و تفاصيلها عند الفراغ من الحوار.
و الحال أن المستجوب يجد نفسه منخرطا بشكل طواعي في الحوار باعتباره عاملا أثيرا في عملية البناء النظري لبداية و نهاية التحقيق . فالحوار الناجح في نظر بورديو هو الذي يتكون عير سلسلة من الحوارات المضنية المقيدة بالبراديغم الصارم , و ليس ذاك الذي يتسارع البعض إلى إنجازه عبر لقاء أو إثنين ظانين أن الحظ حالفهم من أول وهلة .
بعد ذلك تأتي الخطوة التالية حيث يتم تسجيل الحوار و تحريره , و هنا تبرز حنكة و حرفية بورديو في التوثيق . فالرجل كان يؤمن بالكتابة , بل و حتى الكتابة التي تسجل الإنفعالات و الأحاسيس و الإيماءات … ذلك كله لتوفير أعلى شروط المقروئية الممكنة للتحقيق السوسيولوجي باعتباره لحظة تواصل أصيلة .
خاتمة :
إن الباحث السوسيولوجي يفترض فيه أن ينشئ سلسلة حوارات تواصلية دون مطبات أو عوائق . عبر وضعيات بعيدة عن تفاوت الممتلكات اللغوية و الرمزية , وضعيات تسمح للمستجوب بالتعبير عن مظاهر العطب و العسر و الخلل الذي يعاني منه داخل المجتمع , وضعيات مشجعة على انبثاق حوار استثنائي و فعال. آنذاك يمكن أن نتحدث عن انعقاده انعقادا سليما يمكننا من اعادة اكتشاف “الحقيقة” الاجتماعية من منابعها الاصلية ومن أصولها التي ترجع اليها باستمرار من دون زيف أو تحوير .

اعلان 1
اعلان 2

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي